مستجدات عالم الثقافة: بين الرواية والسرد القصصي والسياسة الثقافية
الثقافة ليست مجرد مساحة للترفيه أو القراءة، بل هي مرآة تعكس الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية في العالم. من خلال متابعة مستجدات عالم الثقافة، نجد أن الأدب والرواية لا يزالان يحتلان موقعًا محوريًا في تفسير التجربة الإنسانية، سواء من خلال الحكايات العائلية المعقدة أو النصوص القصصية المكثفة، وحتى في السياسات الثقافية على المستوى الدولي.
يونس خميري وملحمة الأخوات
في روايته "أخوات"، يصوّر الكاتب السويدي-التونسي يونس حسن خميري حياة الأخوات ميكولا على مدار 35 عامًا، عبر ستة أجزاء زمنية متدرجة. تركز القصة على:
إينا: الأخت الكبرى، المحكومة بعصاب قهري، وتتحمل عبء رعاية شقيقاتها.
إفلين: الحالمة، تكافح لإيجاد مسار واضح في حياتها.
أناستازيا: المتمردة والفوضوية، الباحثة عن هويتها واستقلالها.
تعيش كل واحدة صراعاتها الداخلية تحت ظل أم عصابية وغياب الأب، مع الاعتقاد بوجود "لعنة" على حياتهن. يقدم الراوي جوناس، ابن أم سويدية وأب تونسي غائب، منظورًا مزدوجًا بين الواقع والخيال، حيث تتشابك حياته مع حياة الأخوات، مطروحًا السؤال المحوري: هل تحويل حياتنا إلى قصة يمكن أن يساعدنا على النجاة منها؟
تتميز الرواية بلغة سلسة قادرة على نقل القارئ من شوارع ستوكهولم الثلجية إلى أسواق تونس المشمسة، ومن صخب نيويورك إلى هدوء باريس، مع تسليط الضوء على الهجرة، الهوية المزدوجة، التعقيدات العائلية، وتأثير الأساطير على النفوس.
أحد أبرز إنجازات الرواية هو استكشافها عملية الكتابة نفسها، موضحة كيف يمكن للأدب، وخصوصًا الروايات السيرذاتية، تحويل الفوضى المعقدة للحياة إلى قصة متماسكة تمنح القارئ تجربة عاطفية وفكرية غنية، ويشعر من خلالها برابط حميم مع الشخصيات، ليصبح الأدب أداة للشفاء والفهم الذاتي ومواجهة الإرث العائلي والتحديات الحياتية دون الاستسلام لها.
الرأفة والوعي في النصوص القصصية
في مجموعتها القصصية "أقرأ كافكا وكلبتي تحتضر"، تقدم القاصة الفلسطينية شيخة حليوى نصوصًا صغيرة تشبه كراريس يوميات، حيث تتحول الأشياء العادية إلى أدوات للمعنى، والجملة إلى لقطة تحدد زاوية النظر والإيقاع الروائي. تتحول الرأفة من شعور إلى ممارسة دقيقة توازن بين التعاطف والقدرة على اتخاذ القرار، لتبرز الأخلاقيات الصغيرة في البيوت وغرف الانتظار والشرفات.
تستخدم حليوى التفاصيل اليومية لتشكيل قواعد السرد، فتتحول الأشياء المنزلية إلى أدوات لضبط المشهد وتحويل الفزع إلى ممارسة مدروسة. القصص تدرب القارئ على إدارة الانفعال وقراءة المدينة وضبط الإيقاع بين الأحداث والمسافة، لتصبح الكتابة تجربة أخلاقية وبصرية تنسجم مع اللغة والحياة، حيث كل جملة وفاصلة ولقطة تتحول إلى ممارسة ذكية للمعنى والمسؤولية.
الثقافة والسياسة: المقاطعة المزدوجة المعايير
أصبحت المقاطعات الثقافية أداة سياسية متكررة تستخدمها الأنظمة لإدارة صراعاتها، سواء كانت حروبًا ساخنة أو باردة. فقد ألغى مهرجان فلاندر في بلجيكا عرض أوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية بقيادة المايسترو الإسرائيلي لاهاف شاني، بحجة "الوضع الإنساني في غزة" وعدم وضوح موقفه من الحكومة الإسرائيلية. أثار القرار احتجاجات في ألمانيا وبلجيكا واعتُبر معاداة للسامية، ما كشف ازدواجية المعايير الأوروبية مقارنة بعقوبات مماثلة ضد الفنانين الروس بعد اندلاع الحرب على أوكرانيا.
فبينما تم استبعاد فنانيين روس كبار مثل فاليري غيرغييف وآنا نيتريبكو من عروض ومهرجانات، لم تُفرض إجراءات مماثلة على رموز القوة الناعمة الإسرائيلية رغم الحرب على غزة وجرائم الاحتلال، ما يطرح سؤالًا أخلاقيًا حول معايير تقييم الأفعال الإنسانية والسياسية بحسب مصالح الدول الكبرى.
على الصعيد المدني، حاول الفنانون والمثقفون التعبير عن مواقف مستقلة، كما في منصة "ميديا بار"، التي دعا من خلالها مئات الموسيقيين إلى إدانة الإبادة الجارية في غزة، مستلهمين تجارب المقاطعات السابقة ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
كما شهدت حالات أخرى مثل إلغاء جائزة "ليبراتور" للرواية الفلسطينية عدنية شبلي في ألمانيا بحجة "معاداة السامية"، ما يوضح استخدام المؤسسات الثقافية لذريعة القيم لتبرير قرارات سياسية، متجاهلة البعد الإنساني. هذا يؤكد أن المقاطعات الثقافية أصبحت أداة مزدوجة المعايير، بينما تظل المبادرات المدنية للفنانين والمثقفين جسرًا أخلاقيًا للحفاظ على العدالة الإنسانية والوعي بالقضايا المهمشة، مثل القضية الفلسطينية، وسط ضجيج السياسات العالمية.
في النهاية
في النهاية، يظهر جليًا أن الثقافة، سواء عبر الرواية، السرد القصصي، أو المبادرات المدنية، تلعب دورًا مركزيًا في فهم التجربة الإنسانية وتعقيدات العلاقات الاجتماعية والسياسية. من خلال أعمال يونس خميري وشيخة حليوى، ندرك كيف يمكن للأدب أن يحوّل الصراعات الداخلية والفوضى اليومية إلى قصص متماسكة تمنح القارئ وعيًا أعمق بالذات والعالم من حوله.
في المقابل، تذكّرنا الأحداث المتعلقة بالمقاطعات الثقافية بأن الأدب والفن لا ينفصلان عن السياسة، وأن المواقف الأخلاقية المستقلة للفنانين والمثقفين تبقى ضرورية لمواجهة ازدواجية المعايير والحفاظ على العدالة الإنسانية. الثقافة هنا ليست فقط وسيلة للترفيه أو التعبير الفني، بل جسر أخلاقي يربط بين الفرد والمجتمع، بين الذكرى والخيال، وبين الفن والموقف الإنساني.

